نزولا عند طلبكم ، سنخصص موضوع اليوم ” بحث عن كبار السن ورعايتهم ” ، لفئة قد بلغت من العمر عتيا ، واحتاجت لكل ما يقتضيه الحال من رعاية صحية خاصة وعطف وحنان أخص …
بحث عن كبار السن ورعايتهم ( الجزء 1 )
خَلَقَ الله الانسانَ من تراب ؛ خَلَقَهُ من نُطفَةٍ ثم من عَلَقَةٍ فَطِفلاً ثم سَوَّاهُ رَجُلا ؛ رَجُلاً على أَشُدِّهِ وبَأسِه ، مَهما عَمَّرَ من دَهرٍ إلا آلَ بَأسُهُ إلى الهَرَمِ .
تلك سُنّةُ الله في خَلقِه ، ليس لِحَالِها مِن مُغيِّر ، ولا لِهَيْأتِها من مُبَدِّل .
يَمُرُّ الانسان بمراحلَ عُمريةٍ متتاليةٍ شتى ، فمن الشباب والقوة والحيوية ، إلى الكهولة و الضعف و الوهن ، وتراجُعٌ في الذهن ونشاط البدن ؛ فلا بد حينها من بديلٍ لِشبابه عند هَرَمِه ، ولِصحته عند سَقَمِه .
ومعلومٌ أنه يكون – خلال أُولى أعوامِه – في أحوَجِ ما يكونُ إلى والِدَيْن يأويانه ، فكذلك يكون عند أواخِرِ العُمُرِ إلى شخصٍ يُعَوِّضُهُ عما وَهَنَ منه من عَظمٍ أو ما نَفَدَ منه من استطاعة ، أو حتى من فراغٍ قد يشتاقُ إلى أنيسٍ يَسُدُّه ، وهذا من باب الإحسان إليهم ، وعدم الإساءة لهم ، الذي أوصى به الله عز وجل .
قد يقول قائلٌ : أن رعاية كبار السن هي مجردُ تعاملٍ مع أشخاص مِثلُهم مثل غيرهم من البشر العاديين الذين من حولنا ، غير أنه مخطئ حقا ذلك الذي يعتقد هذا الاعتقاد .
العناية بهذه الفئة من المجتمع هي في الحقيقة جدا حساسة بقدر حساسية حالة هذا النوع من الناس البدنية منها أو المعنوية على حد سواء . بل هي ميدانٌ يُلازِمُهُ الحرصُ والتركيزُ لدرجة أن مُمارِسه يستوجب عليه أن يمر بتمرن أو بالأحرى بنوع من التربص قبل أن يخوض مُعتَرَكَه .
تعريف المسن
كلمة مُسِن من نفس عائلة مفردة ” سِن ” ؛ فالمسن هو ذلك الشخص الذي بلغ مرحلة متقدمة من السن ، أي العمر .
وهو ذلك الذي بلغ من العمر عتيا إلى أن أضحى عاجزا عن القيام بالكثير من الأمور التي لطالما كان يقوى على مَشاقِها طوالَ ما أمضى من حياته .
أما تحديد بداية هذه المرحلة بالضبط فيختلف من مجتمع لآخر ، أو من بلد لآخر… .
ففي بعض النواحي من المعمورة يتم تحديد ذلك اعتمادا على سن الاحالة على التقاعد ، وفي البعض الآخر يتم تبعا لسن الستين ، أما في نواحيَ أخرى فيُحدَّدُ عن طريق بعض الحالات التي يصبح عليها الانسان مثل عجزه – عقلا وبدنا – عن أداء العمل بشكل يومي .
فمثلما سُمِّي بالغا في مرحلة من مراحل العمر ، سُمِّي كذلك مسنا في مرحلة أخرى غيرِ ذلك .
معنى رعاية كبار السن
إن راحة وصحة والِدِينا هي أكثر ما نتمناه لهم عند بلوغهم الكِبَر وما قد يكون المرحلة الأخيرة من أعمارهم .
فرعاية كبار السن تعني الاهتمام بصحة وراحة الجانب البدني ، العقلي وكذا العاطفي لأهم عضو في العائلة .
فهم معرضون لمختلف المشاكل الصحية و التغيرات النفسية ، منها الإصابة باضطرابات عصبية ، ومشاكل في القلب ، والسكري ، وضعف السمع ، والزهايمر .
كما أنه يجب الحرص أيضا على عدم ترك أي عائق قد يعيق مسار حياتهم العادية كعدم القدرة على المشي مثلا أو تناول الطعام أو ما إلى ذلك من المتطلبات الحياتية… .
[wp_ad_camp_3]بحث عن كبار السن ورعايتهم ( الجزء 2 )
كيف تم الالتجاء إلى هذا النوع من الرعاية ؟
يقول المثل المتداول : الحاجة أم الاختراع .
في القديم كان الإنسان يعيش على شكل مجتمعات وقبائلَ مترابطة ، فقد كان كل فرد يكمّل الآخر : الكبير يأوي الصغير والصغير يساعد الكبير والابن البالغ يرعى الأبَ المسن… .
لكن حياة الانسان تتغير وتتطور مادام صاحبُها مميَّزا بالعقل عن سائر المخلوقات ، فكما نرى اليوم هنالك اختلاف جذري وكبير في نمط الحياة .
كما أن تغيّر هذا النمط مرتبط ارتباطا وثيقا بعوامل كل مجتمع على حدى ، وتحديد المجتمعات في موضوعنا هذا يخضع لعدة مقاييس ، منها الدين ( المجتمع المسلم ) ومنها الرقع الجغرافية ومنها كذلك نوعية القوانين التي تتبناها مختلف البلدان… .
لذا فهذه الحاجة تختلف وتتنوع أمكِنَتُها على النحو التالي :
1- عند المجتمع الغربي
البلدان الغربية هي في الغالب بلدانٌ متقدمة ، وحيثما وُجِد التقدم وُجدت معه الرفاهية ، لذا فالرفاهية التي تتسم بها حياة الفرد الغربي تجعله يميل إلى الحرية في العيش ويفضل الاستقلالية عن البيت الذي يخضع فيه للائتمار بأوامر الوالدين .
بل زيادة على ذلك فهو يفضل عدم إنجاب الأولاد إلا عند سن متقدمة وبعدد قليل جدا قد لا يتجاوز الولد الواحد أو الاثنين ، وذلك طمعا في التخفيف بقدرٍ أكثر من الالتزامات ، وهو الأمر الذي ساهم في تفاقم نسبة الشيخوخة عند هذه البلدان بصفة مُلفتة .
فئة المسنين عند الغرب هي فئة مستهلكة ، وهي في نفس الوقت تمثل النسبة الطاغية في التعداد البشري ، وإهمالها هو بمثابة إهمال لشريحة عريضة ومهمة من المجتمع .
لهذا السبب كان من الضروري ايجاد حل لها ولمختلف مشاكلها التي تزداد مع كل تقدمٍ في السن ، وهنا تتجلى الحاجة إلى ضرورة ابتكار وسائل تضمن رعاية كبار السن عند الغرب، وهذه الوسائل متشابهة في بعض الميزات ، لكنها في أمور أخرى تختلف من بلد لآخر ، لذا كان من الأفضل ذكر بعض البلدان كأمثلة كل على حدى ، عسى أن تبرز بعض أوجه الشبه والاختلاف :
فأوروبا على سبيل المثال لم تُسمَّ بـ ” القارة العجوز ” عبثا ؛ إذ يبلغ متوسط عمر مواطنيها 41 عاما ، ومن المتوقع أن يرتفع المتوسط بحلول عام 2050 ليبلغ 52 عاما .
إذن فلا مناص للقارة العجوز من اعتماد رعاية المسنين .
ألمانيا :
فألمانيا مثلا ، كبلد من بين أبرز هذه البلدان ، تزداد نسبة الحاجة إلى رعاية هذه الشريحة من المجتمع كل عام .
نظرا للنمو الديمغرافي من جهة ، والتقدم الذي يشهده الطب من جهة أخرى ، فإن نسبة كبار السن في بلد صناعي كألمانيا في تزايد طردي .
ومن بين نتائج ذلك ، هو أن المزيد والمزيد من الرعاية المهنية أصبحت ضرورية . وستستمر الحاجة إلى رعاية المسنين في ألمانيا في المستقبل ، حيث يقدر عدد الأشخاص المحتاجين إلى الرعاية بحوالي 2.9 مليون خلال عام 2020 .
يمكن ملاحظة ارتفاع نسبة كبار السن بوضوح في ألمانيا ، حيث يشكلون من عمر 65 فما فوق ، نسبة 21% من سكانها ، أي ما يقارب 17.5 مليون شخص ، ومتوسط العمر المتوقع عندها جعلها تحتل المركز السادس والعشرين ، حيث وصل إلى 81.26 سنة خلال عام 2018 !
سويسرا :
سويسرا هي الأخرى ، مثالٌ آخر عن مختلف الدول الأوروبية المتقدمة ، في غير منأى عن الحاجة إلى رعاية كبار السن .
فهي تعاني الأمرّين ؛ تواجه ارتفاعا مذهلا في عدد مواطنيها الذين تتجاوز أعمارهم 65 عاما ، ومن جهة أخرى حوالي نصف العاملين في دور رعاية المسنين سيُـحالون بدورهم على التعاقد خلال السنوات الـ 15 المقبلة .
ويتجه حجم الطلب على الأماكن في دور الرعاية الاجتماعية إلى الارتفاع . إذ توقّعت دراسة أجراها مرصد الصحة بسويسرا عام 2009 ، أن عدد الذين ستتجاوز أعمارهم 65 عاما سيزيد بنسبة 66% في الفترة ما بين 2005 و 2030 ، كما سيتضاعف عدد الذين ستتجاوز أعمارهم 80 عاما .
الدراسة نفسها ، تتوقّع أن نصف المهنيين الصحيين العاملين حاليا مع المتقاعدين أو في دور المسنين ، سينضمون إلى فئة ما فوق 65 عاما . هؤلاء المهنيين لن يكون من السهل تعويضهم ، على الرغم من أنه لا يوجد نقص في عدد الأشخاص الراغبين في خوض تجربة التمريض .
بحث عن كبار السن ورعايتهم ( الجزء 3 )
2 – عند المجتمعات القروية
إذا كانت المجتمعات الحديثة قد أهملت في فترة ما أدوار المسنين في العمل والانتاج ، فإن المجتمعات البسيطة والقروية مازالت تعطي للمسنين أدوارا اجتماعية تتناسب مع مكانتهم .
فالتاريخ يحدثنا أن المسنين في مصر والصين في العصور القديمة كانوا محل احترام وتقدير ، وكانت المجتمعات الصغيرة التي يعيشون فيها تلجأ إليهم لفض مشاكلهم ولاستشارتهم في أمورهم سواء كانت هذه المجتمعات عائليةً أو على مستوى القرية .
وكثيرا ما نقرأ عن مجلس العقلاء في هذه القرى ، هذا فضلا عما ذكره التاريخ عن الحكماء والشيوخ الذين كان يلجأ إليهم الملوك والزعماء لاستجلاء رأيهم فيما يصادفونه من مشاكل الحكم والدولة ، أي أن حكمة وخبرة الشيوخ كانت مصدرَ احترامٍ لهم على مدى الأجيال السابقة ، وهي حقائق لا يمكن إنكارها .
وكما لا يخفى على القاصي والداني ، فإن المجتمعات القروية هي الأكثر احتكاكا بالطبيعة مقارنة مع نظيرتها الحضرية ، كما أنها تتسم بكونها محافظة ومتمسكة بالعادات والتقاليد ، وهي في منأى عما قد تشهده المدينة من التطور والتغير اللذين قد يؤثران في نمط حياة الانسان ومعيشته .
لذا فكبير السن عند المجتمع القروي مثله مثل بقية أعضاء العائلة الواحدة ، الكل يعيش تحت سقف واحد ، أو حتى إذا كانت الأسر منفصلةَ البيوتِ فإنها تبقى قريبة من بعضها البعض .
أتى التطور لدى الدول المتقدمة بتعقيدات ساهمت حتى في تعقيد حياة المسنين أنفسهم ، بيد أن بساطة المجتمعات القروية حافظت من جهتها على معيشة كبار السن بل لم تجعل من الحاجة إلى رعايتهم حاجةً أصلا .
3 – عند المجتمعات المسلمة :
يمكن الحديث عن رعاية كبار السن لدى المجتمعات المسلمة كبلد واحد ، ما دامت المبادئ واحدة .
الأمر يتعلق بتلك المبادئ الواضحة الجلية التي أتى بها دين الإسلام والتي تَوَاصَلَ تطبيقُها لمدة تفوق الـ 14 قرنا من الزمان ، ولا تزال كذلك إلى يومنا هذا ، وهي متجذرة حتى في عادات وتقاليد المسلمين – وإنْ وُجِدت اختلافات طفيفة في الفرع لا تستحق الذكر – . كما أنها ترسبت في أعماق الفرد المسلم حتى باتت من البديهيات .
ففي القرآن الكريم ، الذي هو المرجع الأول والأقدس لدى المسلمين ، ذَكَر الله تعالى في أكثر من موضعٍ الوَالِدَيْن ووجوبَ رعايتِهما والإحسانِ إليهما ، مما يدل على أهمية مكانتهما :
قال الله تعالى : { وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا } – الإسراء 23 .
بل وعدم التعرض لهما ولو بأبسط التصرفات اللفظية ككلمة ” أف” التي ورد ذكرها في نفس الآية : { إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا } .
وفي السنة النبوية الشريفة ، أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم بكبار السن خيرا في حديثه ” إِنَّ مِنْ إجلال الله تعالى : إكرام ذِي الشَّيْبةِ المُسْلِمِ ” ( حديث حسن ) .
وفي حديث آخر ، أوصى الرسول الكريم بتوقير كبار السن ، حيث قال : ” ليس منا من لم يرحم صغيرنا ، ويوقر كبيرنا ” ( صححه الألباني ) .
إذن . فرعاية كبير السن عند المجتمع المسلم تتمثل في استقرار المسن بالمأوى الذي عهده مع الأبناء والأهل ، غير أنه في واقع الأمر لا بد للحالات الاستثنائية أن تقع ، ولا شك أن هنالك من المسنين ممن لم يُقدَّر لأبنائه أن يكونوا بجانبه ، أو ربما حتى من الذين لم يكتب لهم الله طول العمر .
لذا فالمراكز المخصصة لذلك هي بالفعل موجودة في هذا الوطن الكبير ، لكن أعدادها لا تستحق الذكر إذا قورنت مع نظيرتها عند الدول الغربية المتقدمة .
مصادر :
–